سورة القلم - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القلم)


        


{ن} الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم. وأما قول الحسن: إنه الدواة، وقول ابن عباس: إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت، فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم {والقلم} أي ما كتب به اللوح، أو قلم الملائكة، أو الذي يكتب به الناس، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب. و(ما) موصولة أو مصدرية، وجواب القسم {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ف {أَنتَ} اسم (ما) وخبرها {بِمَجْنُونٍ} و{بِنِعْمَةِ رَبّكَ} اعتراض بين الاسم والخبر، والباء في {بِنِعْمَةِ رَبّكَ} تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها {بِمَجْنُونٍ} وتقديره: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك. ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] {وَإِنَّ لَكَ} على احتمال ذلك والصبر عليه {لأَجْرًا} لثواباً {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير مقطوع أو غير ممنون عليك به {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قيل: هو ما أمره الله تعالى به في قوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199]. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق. وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما.
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم {بِأَيِيّكُمُ المفتون} المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، والباء مزيدة، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون. وقال الزجاج: الباء بمعنى (في) تقول: كنت ببلد كذا أي في بلد كذا، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون: فريق الإسلام أو فريق الكفر؟ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ} لو تلين لهم {فَيُدْهِنُونَ} فيلينون لك. ولم ينصب بإضمار (أن) وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف {مَّّهِينٍ} حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة، أو كذاب لأنه حقير عند الناس {هَمَّازٍ} عياب طعان مغتاب {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم، والنميم والنميمة: السعاية {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} بخيل، والخير: المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة: من أسلم منكم منعته رفدي {مُعْتَدٍ} مجاوز في الظلم حده {أَثِيمٍ} كثير الآثام {عُتُلٍ} غليظ جاف {بَعْدَ ذَلِكَ} بعدما عد له من المثالب {زَنِيمٍ} دعي. وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، والنطفة إذا خبثت الناشئ منها. رُوي أنه دخل على أمه وقال: إن محمداً وصفني بعشر صفات، وجدت تسعاً فيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك. فقالت: إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي.
{أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {وَلاَ تُطِعِ} أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال {وَبَنِينَ} كذب بآياتنا يدل عليه {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} أي القرآن {قَالَ أساطير الأولين} ولا يعمل فيه {قَالَ} لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. {أأن} حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ {أأن} شامي ويزيد ويعقوب وسهل. قالوا: لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً {سَنَسِمُهُ} سنكويه {عَلَى الخرطوم} على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع. وقيل: خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه.
{إِنَّا بلوناهم} امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف» {كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة} هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان وكانت على فرسخين من صنعاء، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء.
فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقال الحسن: كانوا كفاراً. والجمهور على الأول {إِذْ أَقْسَمُواْ} حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا} ليقطعن ثمرها {مُّصْبِحِينَ} داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء، حال من فاعل {لَيَصْرِمُنَّهَا} {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} ولا يقولون إن شاء الله. وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك (لأخرجن إن شاء الله) و(لا أخرج إلا أن يشاء الله) واحد {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ} نزل عليها بلاء. قيل: أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها {وَهُمْ نَائِمُونَ} أي في حال نومهم {فَأَصْبَحَتْ} فصارت الجنة {كالصريم} كالليل المظلم أي احترقت فاسودت، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر. وقيل: كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها.


{فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} نادى بعضهم بعضاً عند الصباح {أَنِ اغدوا} باكروا {على حَرْثِكُمْ} ولم يقل (إلى حرثكم) لأن الغدوّ إليه ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين {إِن كُنتُمْ صارمين} مريدين صرامه {فانطلقوا} ذهبوا {وَهُمْ يتخافتون} يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنة و(إن) مفسرة وقرئ بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها {اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ} والنهي عن دخول المساكين. نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول.
{وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ} على جد في المنع {قادرين} عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا} أي جنتهم محترقة {قَالُواْ} في بديهة وصولهم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وخيرهم {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم. أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم! كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا {قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون} يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر.
ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين} بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء {عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} وبالتشديد: مدني وأبو عمرو {خَيْراً مّنْهَا} من هذه الجنة {إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون} طالبون منه الخير راجون لعفوه. عن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيراً منها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً {كَذَلِكَ العذاب} أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم {وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ} أعظم منه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب.
ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال:
{إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ} عن الشرك {عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جنات النعيم} جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا. فقيل لهم: أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم {أَمْ لَكُمْ كتاب} من السماء {فِيهِ تَدْرُسُونَ} تقرؤون في ذلك الكتاب {إنّ لكم فيه لما تخيّرون} أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم. والأصل تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح (أن) لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على نُوحٍ} [الصافات: 78-79]. وتخير الشيء واختاره أخذ خيره {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} عهود مؤكدة بالأيمان {بالغة} نعت {أيمان} ويتعلق {إلى يَوْمِ القيامة} ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى {أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
{سَلْهُمْ} أي المشركين {أَيُّهُم بذلك} الحكم {زَعِيمٌ} كفيل بأنه يكون ذلك {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} ناصب الظرف {فَلْيَأْتُواْ} أو (اذكر) مضمراً. والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب، فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وهذا كما نقول: للأقطع الشحيح يده مغلولة، ولا يد ثمة ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل. وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف لأنها ساق معهودة عنده {وَيُدْعَوْنَ} أي الكفار ثمة {إِلَى السجود} لا تكليف ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع {خاشعة} ذليلة حال من الضمير في {يُدْعَونَ} {أبصارهم} أي يدعون في حال خشوع أبصارهم {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يغشاهم صغار {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ} على ألسن الرسل {إِلَى السجود} في الدنيا {وَهُمْ سالمون} أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثَمَّ.


{فَذَرْنِى}. يقال: ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه {وَمَن يُكَذِّبُ} معطوف على المفعول أو مفعول معه {بهذا الحديث} بالقرآن، والمراد كل أمره إليَّ وخل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به، مطيق له، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للمكذبين {سَنَسْتَدْرِجُهُم} سندنيهم من العذاب درجة درجة. يقال: استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج. قيل: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. قال عليه السلام: «إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية» {وَأُمْلِى لَهُمْ} وأمهلهم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك. والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً.
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ} على تبليغ الرسالة {أَجْراً فَهُم مّن مَّغْرَمٍ} غرامة {مُّثْقَلُونَ} فلا يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوح المحفوظ عند الجمهور {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون به {فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه. والوقف على الحوت لأن (إذ) ليس بظرف لما تقدمه، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر {إِذْ نادى} دعا ربه في بطن الحوت ب {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ} رحمة {مّن رَّبِّهِ} أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره {لَنُبِذَ} من بطن الحوت {بالعرآء} بالفضاء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم {فاجتباه رَبُّهُ} اصطفاه لدعائه وعذره {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة. وقيل: من الأنبياء. وقيل: من المرسلين. والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين * إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون}
[الصافات: 139-140]. الآيات.
{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} وبفتح الياء: مدني. (إن) مخففة من الثقيلة واللام علمها. زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك. وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا هلك. فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال: لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك. وفي الحديث: «العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» وعن الحسن: رقية العين هذه الآية: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} القرآن {وَيَقُولُونَ} حسداً على ما أوتيت من النبوة {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه {وَمَا هُوَ} أي القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} وعظ {للعالمين} للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين، فكيف يجنن من جاء بمثله؟ وقيل: لما سمعوا الذكر أي ذكره عليه السلام وما هو أي محمد عليه السلام إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟ والله أعلم.